الله الرحمن الرحيم
زفاف في الجنة
المسلم في كل أحواله لا يفكر إلا بالجنان* يصلي من أجل رضا ربه ودخولها* يصوم الهواجر طلباً لها* يبذل الخير أينما كان من أجل أراضي الجنان* الصغير والكبير* الذكر والأنثى* الطائع والعاصي يتمنى أن تكون الجنة هي المقام* جعلها أناس نصب أعينهم يتذكرونها في أفراحهم وأحزانهم* وشغلهم وفراغهم* وفي سفرهم وإقامتهم* لأنهم قرءوا في كتاب ربهم { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأعراف:43].
أخي المسلم:
{ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } [الرحمن:56]*
وقال عنهن: { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ } [الرحمن:58]* ووصفهن ربهن فقال: { كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ } [الواقعة:23]* ووصف نشأتهن وهيئتهن فقال: { إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاء } (35) { فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } (36) { عُرُباً أَتْرَاباً } [الواقعة:35-37] وجوههن جمعت الجمال الباطن والظاهر من جميع الوجوه* في الخيام مقصورات* وللطرف قاصرات* لا يفنى شبابها* لا يبلى جمالها* ولو اطلعت إحداهن على الدنيا لملأت ما بين السماء والأرض ريحاً* وعطراً* وشذاً* ولطمست ضوء الشمس كما تطمس الشمس ما في النجوم من ضياء* راضيات لا يسخطن أبداً.
ناعمات لا يبأسن أبداً* خالدات لا يمتن أبداً* جميلة حسناء* بكر عذراء كأنها الياقوت* كلامها رخيم* وقدها قويم* وشعرها بهيم* وقدرها عظيم* وجفنها فاتر* وحسنها باهر* وجمالها زاهر* ودلالها ظاهر.
كحيلٌ طرفها *** عذبٌ نُطقُها
عجبٌ خلقها *** حسنٌ خُلُقُها
كثيرة الوداد عديمة الملل* أيها الاخوة جمالها لا تتخيله العيون* ورائحتها* وملبسها* وجمال كلامها لا يخطر على قلب. فتعلم هناك - وهناك فقط - أن فيها ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر* وفي لحظات الجنان وبينما ذلك المؤمن ينعم ويمشي على بساط الجنة متنقلاً ما بين حدائقها* وخيامها* وأنهارها وإذا به ينظر نظرة أخرى لذلك القصر المشيد بأنواره المتلألئة وخضرته الناظرة* عندها يبشر المؤمن أن أقبل* فهذا قصرك* وداخله زوجتك تنتظرك منذ أن كنت في الدنيا* فينطلق إليها وتنطلق إليه في أجمل زفاف بينهم* السندس والإستبرق لباسهما* والذهب واللؤلؤ أساورهما* فتقبل إليه ونصيفها على كتفها خير من الدنيا وما فيها* فيعانق الحبيبان عناقاً لا تمله ولا يملها* ويجلسان في ظل ظليل بين الأشجار والرياحين* ومن حولهم أكواب موضوعة فيتبادلان كؤوس الرحيق المختوم* والتنسيم* والسلسبيل* وكأس من خمر لذة للشاربين* فيجلسان على تلكم البسط الحسان* ويتكئان على تلكم الوسائد المصفوفة* وتتوالى عليهم ومن بينهم المسرات* والخيرات* والإحسان* والمكرمات فيقولون: { وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } [فاطر:34]. إنه عرس زفاف في هدوء ورضا يغمره السلام* والإطمئنان* والود* والأمان* ويبلغهم ربهم السلام: { سَلاَمٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [يس:58] والملائكة يقولون لهم: { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ } [الرعد:24]. في هذا الجو العابق وهم على الأرائك متكئون يرون أنهار الجنان تتدفق من بينهم* أنهار* من ماء ولبن* وأنهار من عسل مصفى* وأنهار من خمر لذة للشاربين. يرون فاكهة كثيرة فيأكلون* ولحم طير مما يشتهون فيتلذذون.
فأبدانهم متنعمة بالجنان* والأنهار* والثمار* وقلوبهم متنعمة بالخلود والدوام في جنة الرحمن.
فيا سبحان الله بصيام يوم شديد حره يتلذذ ذلك المؤمن وزوجته على ضفاف أنهار العسل*
فهذا زفت عروسه لصيامه*
وآخر لخشيته لربه وإشفاقه*
وتُزفُّ العروس لأصحاب القلوب المتعلقة بالمساجد*
تُزفُّ العروس للمنفقين سراً وجهراً*
تُزفُّ العروس أيها الإخوة للذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش*
تُزفُّ العروس لأهل القرآن الذين يرتقون في الجنان*
تُزفُّ العروس للذين هم لفروجهم حافظون* ولأماناتهم وعهدهم راعون*
تُزفُّ العروس لعيون طالما نفرت دموعها خشية من ربها*
تُزفُّ لأجساد وقلوب وهبت نفسها لله*
تُزفُّ لأهل التوبة والإستغفار*
تُزفُّ العروس للعفيف المتعفف* والضعيف المتضعف*
والمتواضع ذي الطمرين المدفوع بالأبواب*
تُزفُّ العروس لتارك المراء ولو كان محقاً* وتارك الكذب ولو كان مازحاً*
تُزفُّ لمن حسن خلقه* وكظم غيظه* وعفا عمّن ظلمه*
تُزفُّ لمن أفشى السلام* وصلى بالليل والناس نيام* الله أكبر أهل الجنان والحور أقوام آمنوا بالله وصدقوا المرسلين: { وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [الأعراف:43].
فيا خاطبَ الحسناءِ إن كنتَ باغياً *** فهَذا زمانُ المهرِ فهو المقدمُ
وكن مبغضاً للخائنات لحبها *** فتَحظى بها من دونهن وتنعمُ
وصم يومك الأدنى لعلك في غد *** تفوزُ بعيدِ الفطرِ والناس صومُ
أخي: كلنا نريد أن تُزفَّ إلينا تلك العروس فلماذا تضيع من بين أيدينا بلذة ساعة ومتاع دنيا؟
يقول ربنا عز وجل: { مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [الإسراء:19*18].
أخي المسلم:
الحور الحسان في الجنان تزفُّ إلى أفضل زوج لها بعد الأنبياء والصديقين إنه من باع نفسه من أجل الله* صاحب الدماء الطاهرة ذات الرائحة الزكية* إلى ذلك الرجل الذي يقبل على ربه بدمه الملون لون الدم* والريح ريح المسك* إنه الشهيد في سبيل الله تلكم العيون التي باتت تحرس وتجاهد في سبيل الله حتى بلغت المراد والمنى* ولن يجفّ دم شهيد حتى تتمتع عيناه بالحور الحسان.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد* وعلى آله وصحبه أجمعين.