انا وجدتي ..
( جدتي والشخص الغريب )
في كل يوم جمعة نذهب لزيارة جدتي التي تعيش وحيدة بعد وفات جدي ، إشتقت لذلك المنزل الذي ولدتُ فيه وتربيت ومارست شقاوتي فيه أيام طفولتي ، وأنا أنتظر هذا اليوم من أجل زيارته وزيارة سيدة المكان وهذا الزمان إنها .. ( جدتي ) .
تسبقنا أمي إلى هناك لكي تعد الغداء مع خالاتي وأخواتي الكبار ، أما الرجال والصبية فيأتون بعد صلاة الجمعة ، وفي هذا اليوم ، يصبح منزل جدتي ملهى عائلي كبير ، فجميع الأهل موجودون هنا ، نعم ملهى .. ولكن من غير ألعاب ، ومع هذا يصنع الأولاد ألعابهم بأنفسهم ، والبنات كذلك .
في هذا اليوم تكون جدتي سيدة المكان ، تأتي وتجلس في وسط الليوان ، وهيَ تتأمر على هذا ، وتصرخ على ذاك ، ولكن دون حراك ، تتأمر ونحن ننفذ أوامرها دون كلل ولا ملل ، وفي هذا اليوم أيضاً تكون في كامل زينتها ، تلبس ملفعها الزري وبطلوتها الجديدة واللماعة ، وتتطيب بأجود أنواع الطيب ، ثم تلبس عبائتها المطرزة بتطريزٍ قديم وتجلس بيننا كأنها عروس ولكن في الستين من عمرها .
فرشنا السفرة إستعداداً للغداء ، ووزعنا المطلوبات والمرغوبات ثم صُفْت صواني المُحمّر وسمك الصافي المشوي بعناية ، وإستل كل واحد ذراعة مشمراً عن يمينه إستعداداً للأكل ، أخذت مكاني المعتاد بجانب سيدة المكان ، مستمتعاً بإطعمها بيدي ، أنظف لها السمك من العظام وأضعه أمامها ، وأحياناً أضعه في فمها ، تضحك عندما أفعل لها ذلك وتقول بأن جدي كان يدللها بهذه الطريقة ، أبتسم لها قائلاً ( إعتبريني زوجُكِ ) تضحك وهي تمضغ الطعام بعد أن تطبع صفعتاً على رقبتي ، تاركة الجميع يضحك عليَّ .
تستمتع جدتي بعظام السمك ، فهي تتلذذ بمصه بعد الأكل ، وتصدر أصواتاً كتغريد البلابل الذي يزعج الصغار ، وتتركني أكمل طعامي ، وبعد الإنتهاء من الأكل وغسل يدي آتي بوعاء الغسل لها ، وأغسل يدها بنفسي ، تلك اليد التي حملتني وغسلتني ونظفتني وصفعتني ونومتني عندما كنت صغيراً ، لا تظنون بأن جدتي مريضة ، لا لا .. فهي قوية بما فيه الكفاية ، ولكننا ندللها في هذا اليوم ، حتى لا تشعر بالوحدة ، ونحمد الله بأن جدتي لم تصب بأمراض هذا الزمان مثل السكر والضغط والروماتزم ، فهي في كامل قواها العقلية والصحية والنفسية ونشيطة عندما تكون لوحدها ، أما في هذا اليوم فنتركها تتدلع علينا ، وهذا من حقها .
بعد الإنتهاء من الغداء ، يتوزع الجميع في أرجاء البيت ، تهتم النساء بالنظافة والغسيل ، ونجلس نحن الرجال لنتسامر مع جدتي والصغار أيضاً ، وبعد إنتهاء النساء من أعمالهن ، يأتينَ ويُكملنَ معنا باقي الجلسة ، وتحكي فيها جدتي عن ماضيها العريق الممتع ، ونظل منصتين لها ، ونناقشها ونسألها وهي تجيب ، ورغم تكراره الممل ، لم نفكر أبداً بذلك التكرار أو الملل منه ، بل نزداد إشتياقاً لسماع ذلك التكرار .
بعد وفات جدي بسنه ، حاولنا جاهدين بأن نخرجها من هذا المنزل الطيني القديم المتهالك ، ولكن دون جدوى ، فهي تعتز بهذا القديم الذي يذكرها بشبابها وطفولتها التي رحلت مع السنين ، وفي النهاية تقول بأن رائحة المرحوم في هذا المكان ، وبهذه الحجج نسكت خائبين .
مُتعتي في هذا اليوم هو الجلوس معها على إنفراد بعد صلاة العصر ، لأن الجميع ينشغل بما لديه ، إما بالنوم أو بالخروج مع الأبناء ، أما أنا فأنفردُ بها في هذا الوقت ، وأتفنن في بث الغرام لها وإعادة الحيوية والشباب إليها ، لكيْ لا تشعر بالوحدة ، أجالسها وأنا أسكب لها الشاي والقهوة وهي تنفرد بحديثٍ خاص لي ، تتحدث فيه عن شقاوتها يوم كانت صبية ، في ريعان شبابها ، ولا تتحدث بهذا الأحاديث إلا معي ، أكون مستمتعاً بحديثها رغم تكراره هو الآخر ، سألتها إن كان جدي يدللها في الماضي ، أم كان كثير الشجار معها ؟ ، تقول :
: كثير الشجار .. في النهار ، أما في الليل يصبحُ لطيفاً معي .
: طبعاً .. لمصلحته يجب أن يكون لطيفاً معكِ ، فالرجال يعملون المستحيل من أجل مصلحتهم هاهاها .
: إخرس .. يا قليل الأدب .
تقذفني بأي شيء معها ، فأهرب منها وأنا أضحك ، وما هي إلا لحظات حتى تعود المياه إلى مجاريها ، أعود وأكمل معها باقي الحديث ،
سكتت جدتي فجأة ، وتغير وجهها الذي كان مفعماً بالحيوية وغيرت مجرى كلامها بشكل سريع .
تقول جدتي المسكينة بأن حصل لها شيء غريب قبل ثلاثة أيام ، كانت تجلس في وسط المنزل ، وقت الضحى تمشط شعرها ، وتترنم ببعض الأغاني ، وفي تلك الأثناء ، دخل عليها شخصٌ غريب ، نظرت إليه ولم تلمح شكله جيداً لسطوع الشمس في وجهها ، تركته ولم تعيره إهتمامها ، ضنت بأنه سليم خان جارها الباكستاني الذي تستعين به في بعض الأوقات ليساعدها في تنضيف المنزل ، دخل الغريب إلى غرفتها وبعدها إلى المطبخ ، وأخيراً أتى ووقف أمامها ، وضحك ضحكاتٍ خبيثه ، ثم غربل شعرها ورحل ، وهو على هذا الحال له ثلاثة أيام.
أخبرت الجميع بالموضوع ، فاستعد الرجال للقبض على هذا الغريب بعد معرفة موعد حظوره ، وفي اليوم الموعود طلبنا من جدتي بأن تجلس في المكان الذي كانت تجلس فيه وتمشط شعرها ، وأن تفعل كما كانت تفعل في الأيام السابقة ، وإن أتى ذلك الشخص لا تعيره أي إهتمام ، فقط تتركة يفعل ما يشاء ، لكيْ لا يشعر بنا .
نفذت جدتي ما طلبناه منها ، وإختبأت أنا وإخوتي ، بعضنا في الغرف وبعضنا الآخر فوق الصطوح ، وما هي إلا لحظات حتى دخل الجاني على نفسه إلى البيت ، فاستعد الجميع له ، وكان صبياً في الثامنة عشر من عمره ، وعندما أراد الدخول إلى غرفة جدتي .. خرجنا عليه وأمسكنا به ، ومن شدة خوفه جحضت عيناه ولم يحرك ساكناً ، ولكنه صرخ بأعلى صوته منادياً ، ثم بال في سرواله ، وبكى بشدة ، وهو يقسم بأنه ليس بسارق ، وإنه أتى لخدمة هذه العجوز ، دخل علينا سليم خان جار جدتي متوسلاً إخوتي وجدتي من أجل ترك إبنه ، فقالت جدتي ( وعليه .. نسيت أن أخبركم بأني طلبت من سليم خان تنظيف المكان ، لأني كنت تعبه بعض الشيء في الأيام السابقة ، إتركو الولد ) ، تركناه بعد أن إعتذرنا منه ، ثم سألناه عن السبب الذي جعله يغربل شعر جدتي ، يقول الصبي بأن أباه طلب منه بأن يأتي إلى هنا لكي ينظف المكان ، لأن أباه يخجل من الدخول إلى هنا ، وهو طالب في المرحلة الأخيرة من الثانوية العامة ، ويرغب بأن ينجح بتفوق حتى يحصل على معدلٍ جيداً لكي يدخل به الجامعة ، ولكن أباه مصر على ذلك ويلح عليه بشدة من أجل هذه السيدة ، فيأتي وينظف وباله مشغول بدراسته ، وبعد الإنتها من عمله ، يأتي إليها ويراها مرتاحة البال وتغني ، فيتذكر الدراسة والمجموع ، فينقهر منها لأنها السبب في هذا كله ، فيغربل شعرها ويذهب ، هذه كل القصة.
ضحكنا عليه وعلى صنيع ، ولكننا شكرنها على خدمته لها ، وأقر أخي الكبير بأن يعطيه راتباً شهرياً إذا قام بخدمتها ، ففرح الصبي ولم يصدق ذلك ، وإزداد فرحاً عندما أعطاه أخي أول راتب ، فنسيَ بذلك الدراسة والإمتحانات ، ولم ننسى بأن نحثه على الإهتمام بدراسته .
نحن مقصرون من هذه الناحية ، ولا نستطيع بأن نأتي كل يوم إلى منزل جدتي لكيّ نقوم بالواجب لها ، لأننا نكون مشغولين في وظائفنا .
تركنا جدتي بعد الإطمئنان عليها ، وودعناها على أن نأتي لها في الجمعة المقبلة .
لا تبخلو علينا بالردو ... إنشاء الله تعجكم