أجواء الكلمة
إن تكليف المسلمين بالإجتماع في بقعة واحدةٍ على اختلاف لهجماتهم وأعراقهم وعاداتهم وتقاليدهم وأذواقهم ومذاهبهم وأدائهم معاً لأعمال خاصة ـ وهي أعمال عبادة وتضرع وذكر وتوجه ـ أمر زاخر بالمعاني، ما يتضح منه أن اتحاد القلوب والأرواح لا يقتصر في نظر الإسلام والتصور الإسلامي على ميدان السياسة فقط بل أن التوجه إلى بيت الله الحرام واصطفاف القلوب مع بعضها البعض والتحام الأبدان والأرواح له أهميته أيضاً، لذلك فإنكم تلاحظون قوله تعالى في القرآن الكريم "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" فمجرد الاعتصام بحبل الله لا جدوى منه، وإنما "جميعاً" هي المهمة، فاعتصموا بحبل الله وتمسكوا بعروة التعليم والتربية والهداية الإلهية التي تفيض اطمئناناً.
المهم هو التآلف، تآلف القلوب والأرواح والعقول واجتماع الأبدان، وإن ما تؤدون من طواف ـ هذه الحركة الدائرية حول مركز واحد ـ إنما هو صورة لحركة المسلمين حول محور التوحيد، فيجب أن تتمحور كافة أعمالنا وخطواتنا وهممنا حول محور الوحدانية الإلهية والتوجه نحو الذات الإلهية المقدسة، وهذا درس على صلة بحياتنا بأسرها.
بسم الله الرحمن الرحيم
أرحبُ بكم أولاً، وأُبارك لكم ذكرى المولد السعيد للإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا "عليه الصلاة والسلام". المتجلي حضوره المعنوي في ربوع بلدنا وفي قلوب أبناء شعبنا بفضل وجود مرقده الطاهر في بلادنا ـ ثانياً، أن الإمام الثامن "عليه الصلاة والسلام" هو ولي نعمة شعبنا معنوياً وفكرياً ومادياً، وإنني أتمنى على الله سبحانه وتعالى وببركة هذا المولد العظيم الشريف وببركة وجود هذا الإمام العظيم والمعنويات المتلألئة من قبته الطاهرة، أن يسبغ عليكم ألطافه وينير قلوبكم بنور الهداية الإلهية.
إن حرمة الأشهر الحرم ذي القعدة وذي الحجة ومحرم إنما تحكي عن معنى عظمة هذه الأشهر ومما تتميز به هذه الأيام والليالي والساعات من جلال كبير في التكوين والمشيئة الإلهية، فإن أيام الحج تمثل ذروة هذه الكرامة والعظمة، وحضور الحجيج في المناسك ومركز التوحيد في العالم الإسلامي ـ أي مكة المكرمة ـ لَهَو من أعظم بركات الأشهر الحرم.
ليس عبثاً أن يُقرَّ الإسلام حرمة الأشهر الحرم من بين الأحكام التي كانت سائدة قبل الإسلام، فلم تكن مجاراة من النبي لعرب الجاهلية يومذاك أن اعتبر الإسلام هذه الأشهر حرماً لأنهم كانوا قد حّرموها. كلا بل بمعنى أن لهذه الأشهر الأربعة "منها أربعة حرم" ميزة حقيقة. مثلما تمتاز أيام وليالي وأسابيع وعشريات معينة على مدى العام، فهذه الأشهر لها ميزتها وعلينا جميعاً أن نعرف قدرها، لاسيما حجاج بيت الله الحرام. فعلى الذين سيظفرون هذا العام بهذه السعادة الكبرى، وكذلك أنتم القائمين على خدمتهم اغتنام هذه الأيام كمقدمة لدخول تلك السعادة الكبرى. نسأله تعالى أن يمنّ عليكم جميعاً بخاصة عناياته وهداه وينير قلوبكم إن شاء الله.
الحقيقة هي أن الحج فريضة استثنائية عجيبة وزاخرة بالإسرار والخفايا، وبالرغم من كثرة ما قيل في الحج وفصاحة وروعة ما تحدث وأدلى به جميع مَن تحدثوا، غير أن قضية الحج أكثر عمقاً مما فهمناه حتى يومنا هذا، فالحج عبادة خالصة وعميقة من الخضوع والخشوع والذكر والتعبد والتضرع والتوسل ذات طابع جماعي. وأن جمع هذين البعدين مع بعضهما يجعل القضية غزيرة في معانيها، فبالرغم من وجود عبادات جماعية في الإسلام من قبيل صلاة الجماعة وصلاة الجمعة وصلاة العيد بيْدَ أن هذا الإجتماع العظيم والتمحور حول الذكر والتوحيد واستقطاب المسلمين من أصقاع العالم الإسلامي نحو بقعة واحدة لهو أمر غنّي في معناه.
إن تكليف المسلمين بالإجتماع في بقعة واحدةٍ على اختلاف لهجماتهم وأعراقهم وعاداتهم وتقاليدهم وأذواقهم ومذاهبهم وأدائهم معاً لأعمال خاصة ـ وهي أعمال عبادة وتضرع وذكر وتوجه ـ أمر زاخر بالمعاني، ما يتضح منه أن اتحاد القلوب والأرواح لا يقتصر في نظر الإسلام والتصور الإسلامي على ميدان السياسة فقط بل أن التوجه إلى بيت الله الحرام واصطفاف القلوب مع بعضها البعض والتحام الأبدان والأرواح له أهميته أيضاً، لذلك فإنكم تلاحظون قوله تعالى في القرآن الكريم "واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا" فمجرد الاعتصام بحبل الله لا جدوى منه، وإنما "جميعاً" هي المهمة، فاعتصموا بحبل الله وتمسكوا بعروة التعليم والتربية والهداية الإلهية التي تفيض اطمئناناً.
المهم هو التآلف، تآلف القلوب والأرواح والعقول واجتماع الأبدان، وإن ما تؤدون من طواف ـ هذه الحركة الدائرية حول مركز واحد ـ إنما هو صورة لحركة المسلمين حول محور التوحيد، فيجب أن تتمحور كافة أعمالنا وخطواتنا وهممنا حول محور الوحدانية الإلهية والتوجه نحو الذات الإلهية المقدسة، وهذا درس على صلة بحياتنا بأسرها.
إن الذين يحاولون حصر الأحكام الإسلامية في أقبية البيوت والمعابد والقلوب وسلخ النشاط في الميدان الاجتماعي عن الدين إنما يغفلون هذه الأبعاد الإسلامية، وعلى غرار ذلك يأتي السعي بين الصفا والمروة الذي يتعين على المسلمين أن قطعوه، فهو سعي وحركة تقترن بالهمة والشدة والتوجه والإرادة والتحرك الواعي، ويجب على الجميع المسير والذهاب والرواح سوية، وكذا الاجتماع الأكبر في عرفة والمشعر ومنى، فهذه الأعمال الجماعية العظيمة التي لا يمكن العثور على نظيرها في أيّ دين أو مذهب آخر أو في أيٍّ من الفرائض الإسلامية الأخرى، إنما تدلل على عظمة هذه الفريضة، فلقد استودعت فيها ذخيرة إلهية يتعين على مَن يحالفه الخط في أن يبسط يديه نحوها والانتهال منها بأقصى ما يمكن. فانتفعوا من هذه الذخيرة خلال أيام الحج ما استطعتم.
إن هذه المواقيت مباركة بأيامها وزمانها وكذلك بمكانها أيضاً، فهي من حيث الزمان تقع في غاية حرمة الأشهر الحرم، ومن حيث المكان تأتي في بقعة هي أرفع رحاب الله بركة ـ ألا وهو بيت الله ومركز التوحيد ومهوى أرواح المسلمين جميعاً ليلاً ونهاراً ـ وعلى الحاج العمل هناك على توثيق علاقته بالله تعالى وتوطيدها، والأنس بالقرآن وان يجعل من التضرع والذكر وحضور القلب واجباً متواصلاً بالنسبة له، وأن،َّ المرء ليأسف جداً أن يتوجه البعض إلى هناك بحثاً وراء البضائع التي يمكن العثور عليها في كل مكان، وأن البعض ليستهلكون العمر والأموال ويهدرون سمعتهم ووقتهم النفيس تجوالاً في مختلف الأسواق لاقتناء هذه السلع التي هي من المستلزمات البسيطة في الحياة ومتوفرة في كل مكان، في حين أن هناك بضاعة لا وجود لها في أي مكان آخر: إنها بضاعة الرضوان الإلهي وحج بيت الله الحرام وزيارة قبر رسول الله (ص) فأين يمكن العثور عليها ياترى؟
على الجميع استثمار هذه الفرصة، وعليكم انتم القائمين على ضيافة الحجيج وخدمتهم تذكيرهم بهذه الأمور على الدوام، فينبغي أن ينتقل صفاء المعنويات والهداية من خلال هذه الجماعة المؤمنة الودودة إلى أفئدة الحجاج الوالهة بشكل مستمر.
هنالك الكثير من هذه الفرص السانحة أمام الأمة الإسلامية ما لو تم استثمارها لأضحت الأمة الإسلامية كما أراد القرآن لها "فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون" أو " ولاتهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون".
فإنكم الأعلون، وعلوكم هذا ليس سببه العرق ولا لقرابة من الله سبحانه ـ فلا علاقة متميزة لأي من الخلق مع الله ـ لكنكم الأعلون لانتمائكم لدين له القدرة على إنقاذ البشرية وهي تعيش عصر حيرتها، وله القدرة على أن يضع في أيدي البشر مشعل الهداية على مر الدهور فيسعدهم ويبلغ بهم برّ الأمان والتكامل، وهذا ما تتميزون به، ولقد كانت سائر الأديان مقدمة لأن يقتحم هذا الدين ميدان الفكر البشري.
"أنتم الأعلون" لأنكم تمتلكون الإيمان الذي يجب عليكم استثماره، فهذا الإيمان هو الذي يقوى على تحطيم قوى الشياطين والفراعنة وتبديدها، وقد حطّمها بالفعل، فمن ذا الذي كان يتصور أيام بزوغ الإسلام أن تُفلح ثلة قليلة من المظلومين قليلي المتاع في إحدى زوايا مكة أن تؤسس أعظم حضارة في وقتها بفضل هذه الآيات الإلهية وتعمل على رقي الحضارة البشرية وازدهارها وبناء هذه الدولة الكبرى المترامية الأطراف وتبقى يكللها العز والفخار على مر الزمان؟
كان البعض يتصور سرعان ما ينتهي كل شيء "الظانين بالله ظن السَّوء" فقد كانوا يظنون عدم نجاح النبي (ص) في أيٍّ من الوقائع التي ستواجهه. "بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبداً" "وظننتم ظن السَّوء وكنتم قوماً بوراً". إن الذين يسيئون الظن بالله ويجهلون أهمية وقيمة جوهرة الدين النفيسة هم "القوم البور"، ولا ينبغي لنا نحن المسلمين الانحدار إلى هذا المستوى.
إن القرآن هو القادر على هداية الإنسان والبلوغ به من مستوى الإنسان الذي "لفي خسر" إلى الإنسان الذين "انك كادح إلى ربك كدحاً فملاقية" فيسير نحو الله ويصير إليه ويلقاه..، وهذا الحج مظهر لهذا القرآن، ومن هذا القرآن انبثق الإيمان الخالص الذي تحلى به المؤمنون عبر التاريخ الإسلامي، وهذا ما ينبغي عرفان قدره.
وهذه الذخيرة شأنها كسائر ذخائرنا تتعرض للهجوم، فالذين ترونهم يسعون في مراسم الحج لإثارة الاختلاف والفتن وإشاعة أفكارهم الموهومة والخرافية والمتحجرة إنما هم الأصابع التي تعمل عن وعي أو جهل لتدمير هذه الذخيرة والقضاء عليها، وأن الذين يحولون دون أن تتجلى شوكة هذه الوحدة وهيبتها وعزتها وعظمتها وتلقى صداها أمام أنظار الأمة الإسلامية الكبرى إنما هم من الذين يعمدون للقضاء على هذه الذخيرة وإهدارها، وأن الذين يقفون بوجه وحدة الأمة الإسلامية وعظمتها من أن تتجلى أمام العام الإسلامي ـ في سبيل الله. لا العظمة على سبيل التفاخر ولا العظمة لاستعمار سائر الأمم وامتهانها، ولا العظمة بوصفها إضرامٌ للحروب على الضعفاء في العالم، بل العظمة من أجل القيم الإلهية وفي سبيل التوحيد ـ إنما هم يقترفون ظلماً بحق البشرية.
إن العالم الإسلامي يتجرع الصدمات اليوم نتيجة لإهمال هذه الذخيرة الإلهية العظمى. فانظروا إلى ما يصنعه مستكبروا العالم وفراعنته مع المسلمين في منطقة الشرق الأوسط ممن هم على جوار مع هذه الجوهرة العظيمة ـ لكنهم لا يحسنون الانتفاع منها وللأسف ـ، فانظروا ماذا يفعلون بالشعب الفلسطيني، وأي خطة يحوكون للعراق، وأية أحلام راودتهم للاستحواذ على المصادر المادية والمعنوية لهذه المنطقة وثرواتها، وأن الأمة الإسلامية قادرة على الوقوف بوجه هذه التحركات الهمجية واجهاضها شريطة أن تعود إلى حبل الله المتين وعروته الوثقى، وهذا شرط صعب لكنه ممكنٌ، إذ أن كافة التطلعات ـ ومن بينها هذا الهدف ـ إنما تتحقق بالقول والاستماع والإدراك والثبات، فلقد مرّ يوم لم يكن فيه ذكر لعظمة الإسلام وشوكته في الدول العربية وبين الشعوب الإسلامية، لكنه اليوم قائم بفضل ثبات الشعب الإيراني على مبادئ الإسلام. وتضحياته وجهاده، فلقد ناء الشعب الإيراني بعبء ثقيل من أجل الأمة الإسلامية، وأن الشعب الإيراني والمجاهدين في سبيل الله هم الذين يجنون عظيم الأجر، غير أن العالم الإسلامي ينتفع بجهادهم أيضاً، وأن النظام الإسلامي الذي يستظل براية الإسلام الخفاقة متمسكٌ بكافة الموازين الإسلامية وأننا نزن كافة القضايا العالمية في ضوء المعايير الإسلامي وهي أدق معيار وأفضل ملاك للمصلحة، ولا ينبغي التوهم بأننا حيث ننظر إلى الأحداث برؤية إسلامية فلا قدرة لنا على تحليل الأحداث أو العثور على ستراتيجية صائبة، بل على العكس من ذلك إذ أن الإسلام يضع في أيدينا نبراساً نبصر به طريقنا، فالذين انهاروا أمام غطرسة أمريكا وهمجية الصهاينة ووحشيتهم التي لا مثيل لها واستسلموا لها بل وأعانوهما أنما كان ذلك لعدم التزامهم بالإسلام فوقعوا ضحية هذا الابتلاء العظيم، فلا دنياهم قد صلحت ولا هم استطاعوا أن يبنوا لأنفسهم شرفاً وعزاً إنسانياً وهم مسؤولون أمام الله سبحانه وتعالى أيضاً، فليست بصالحةٍ دنيا الحكومات والدول التي لم تكن على استعداد لأن تتفوه عن مظلومية الشعب الفلسطيني والدفاع عن هذا الشعب المظلوم بشكل جدي، وهي الآن ليست على استعداد لأن توجه انتقادها لأطماع أمريكا وابتزازاتها في هذه المنطقة والتصدي لها والوقوف بوجهها.
إنها لسذاجة إذا تصورنا أنهم يجارون أمريكا خطوات معدودات فيحصلون بدلاً عن ذلك الحياة المرفهة. فأية حياة مرفهة؟ فالتجارب التي تحيط بنا في العالم الإسلامي تعج بإخفاقات الذين خدموا الشيطان وأعانوه وجاروه، فهؤلاء يستفيدون ما داموا موضع فائدة لأولئك وللرأسماليين وللشركات التي تقف وراء تلك السياسات، وفيما بعد يرمي الشيطان بهم كما يُرمى بحجر الاستنجاء ـ كما يعبر مولوي ـ وهذه التجربة التي شهدناها.
إن الإسلام يهب الأمة الإسلامية وحكام المسلمين العزة والقدرة والشجاعة للمبادرة والإدراك وإبصار طريقهم، والحج فرصة كبرى لأن توضع هذه الحقائق وحقائق كثيرة أخرى من هذا القبيل ـ التي نتمتع بها نحن الشعب الإيراني المسلم بفضل المعرفة والهداية الإسلامية ـ في متناول الرأي العام العالمي لتوعيتهم، وهنالك الكثير من الأفئدة الواعية في العالم الإسلامي التي ينبغي أن تشعر بوجود من يؤيد أفكارها في أرجاء العالم الإسلامي كي تكتسب ما يلزمها من الجرأة والشهامة والشجاعة. وهذا ما يتحقق في ظلال معنويات الحج. فلا تغفلوا معنويات الحج والانتهال من المفاهيم السامية التي تنطوي عليها الأدعية والزيارات والآيات القرآنية الكريمة، وانتفعوا من هذه الذخيرة الإلهية ما استطعتم، وأن تعودوا من هذا السفر بأيدٍ ملأى بعونه تعالى.
نسأله تعالى التوفيق لكم جميعاً أيها الأخوة والأخوات القائمين على خدمة الحجيج لا سيما المسؤولين على هذا العمل الجبار الذين يتحملون أعباءً جمّة وينوؤن بمشكلات باهضة حقاً، كما أتقدم بالشكر لسائر الأعزاء الذين وفدوا من دار الحديث والكلية التابعة لها، متمنياً أن يشملكم الله جميعاً برحمته ولطفه وهدايته وتنالوا مزيد الأجر من لدن الباري تعالى في هذه الأيام المباركة وهذا السفر المبارك إن شاء الله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تحياتى اختكم بااربى
00